فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{ذرْنِي ومنْ خلقْتُ وحِيدا (11)}
لما جرى ذكر الكافرين في قوله: {فذلك يومئذٍ يوم عسير على الكافرين} [المدثر: 9، 10]، وأشير إلى ما يلقاه الرسول صلى الله عليه وسلم من الكافرين بقوله: {ولربّك فاصبر} [المدثر: 7] انتقل الكلام إلى ذكر زعيم من زعماء الكافرين ومدبر مطاعنهم في القرآن ودعوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} إلخ.
استئناف يؤذن بأن حدثا كان سببا لنزول هذه الآية عقب الآيات التي قبلها، وذلك حين فشا في مكة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عأوده الوحي بعد فترة وأنه أُمر بالإِنذار ويدل على هذا ما رواه ابن إسحاق أنه اجتمع نفر من قريش فيهم أبو لهب، وأبو سفيان، والوليدُ بن المغيرة، والنضر بن الحارث، وأميةُ بن خلف، والعاصي بنُ وائل، والمُطْعِم بن عدِي.
فقالوا: إن وفود العرب ستقدِم عليكم في الموسم وهم يتساءلون عن أمر محمد وقد اختلفتم في الأخبار عنه.
فمن قائل يقول: مجنون وآخر يقول: كاهن، وآخر يقول: شاعر، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد، فسمُّوا محمد باسم واحد تجتمعون عليه وتسميه العرب به، فقام رجل منهم فقال: شاعر، فقال الوليد بن المغيرة: سمعتُ كلام ابننِ الأبرص (يعني عبيد بن الأبرص) وأميّة بن أبي الصلت، وعرفتُ الشعر كله، وما يشبه كلام محمد كلام شاعر، فقالوا: كاهن، فقال الوليد: ما هو بزمزمة الكاهن ولا بسجعه.
والكاهن يصدُق ويكذب وما كذب محمد قط، فقام آخر فقال: مجنون، فقال الوليد: لقد عرفنا الجنون فإن المجنون يُخْنق فما هو بخنقه ولا تخالُجِه ولا وسوسته، فقالوا: ساحر، قال الوليد: لقد رأينا السُّحّار وسِحْرهم فما هو بنفثه ولا عقْده، وانصرف الوليد إلى بيته فدخل عليه أبو جهل فقال: ما لك يا با عبدِ شمس أصبأْت؟ فقال الوليد: فكّرت في أمر محمد وإِن أقرب القول فيه أن تقولوا: ساحر جاء بقول هو سحر، يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته، فقال ابن إسحاق: فأنزل الله في الوليد بن المغيرة قوله: {ذرني ومن خلقت وحيدا} الآيات.
وعن أبي نصر القشيري أنه قال: قيل بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول كفار مكة: أنت ساحر فوجد من ذلك غمّا وحُمّ فتدثر بثيابه فقال الله تعالى: {قم فأنذر} [المدثر: 2].
وأيّاما كان فقد وقع الاتفاق على أن هذا القول صدر عن الوليد بن المغيرة وأنه المعنِيُّ بقوله تعالى: {ومن خلقت وحيدا} فإن كان قول الوليد صدر منه بعد نزول صدْر هذه السورة فجملة {ذرني ومن خلقت وحيدا} مستأنفة استئنافا ابتدائيا والمناسبة ظاهرة، وإن كان قول الوليد هو سبب نزول السورة، كان متصلا بقوله: {ولربّك فاصبر} [المدثر: 7] على أنه تعليل للأمر بالصبر بأن الله يتولى جزاء هذا القائل، وما بينهما اعتراض، ويؤيد هذا أن ابتداء الوحي كان في رمضان وأن فترة الوحي دامت أربعين يوما على الأصح سواء نزل وحي بين بدء الوحي وفترته مدة أيام، أو لم ينزل بعد بدئه شيء ووقعتْ فترته، فيكون قد أشرف شهر ذي القعدة على الانصرام فتلك مدة اقتراب الموسم فأخذ المشركون في الاستعداد لما يقولونه للوفود إذا استخبروهم خبر النبي صلى الله عليه وسلم وتصدير الجملة بفعل {ذرني} إيماء إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مهتما ومغتما مما اختلقه الوليد بن المغيرة، فاتصاله بقوله: {ولربّك فاصبر} يزداد وضوحا.
وتقدم ما في نحو{ذرني} وكذا، من التهديد والوعيد للمذكور بعد وأو المعية، في تفسير قوله تعالى: {فذرني ومن يكذّب بهذا الحديث} في سورة القلم (44).
وجيء بالموصول وصلته في قوله: {ومن خلقت وحيدا} لإِدماج تسجيل كفران الوليد النعمة في الوعيد والتهديد.
وانتصب {وحيدا} على الحال من {من} الموصولة.
والوحيد: المنفرد عن غيره في مكان أو حال مما يدل عليه سياق الكلام، أو شهرة أو قصة، وهو فعيل من وحُد من باب كرُم وعلِم، إذا انفرد.
وكان الوليد بن المغيرة يلقب في قريش بالوحيد لتوحده وتفرده باجتماع مزايا له لم تجتمع لغيره من طبقته وهي كثْرةُ الولد وسعة المال، ومجده ومجد أبيه مِن قبله، وكان مرجع قريش في أمورهم لأنه كان أسنّ من أبي جهل وأبي سفيان، فلما اشتهر بلقب الوحيد كان هذا الكلام إيماء إلى الوليد بن المغيرة المشتهر به.
وجاء هذا الوصف بعد فعل {خلقْت} ليصرف هذا الوصف عما كان مرادا به فينصرف إلى ما يصلح لأن يقارن فعل {خلقتُ} أي أوجدتُه وحيدا عن المال والبنين والبسطة، فيغيّر عن غرض المدح والثناء الذي كانوا يخصونه به، إلى غرض الافتقار إلى الله الذي هو حالُ كل مخلوق فتكون من قبيل قوله: {والله أخرجكم من بطون أمهاتِكم لا تعلمون شيئا} [النحل: 78] الآية.
وعطف على ذلك {وجعلتُ له مالا} عطف الخاص على العام.
والممدود: اسم مفعول من مدّ الذي بمعنى: أطال، بأن شُبهت كثرة المال بسعة مساحة الجسم، أو من مدّ الذي بمعنى: زاد في الشْيءِ من مثله، كما يقال: مد الوادي النهر، أي مالا مزيدا في مقداره ما يكتسبه صاحبه من المكاسب.
وكان الوليد من أوسع قريش ثراء.
وعن ابن عباس: كان مال الوليد بين مكة والطائف من الإِبل والغنم والعبيد والجواري والجِنان وكانت غلة ماله ألف دينار (أي في السنة).
وامتنّ الله عليه بنعمة البنين ووصفهم بشهود جمع شاهد، أي حاضر، أي لا يفارقونه فهو مستأنس بهم لا يشتغل بالُه بمغيبهم وخوففِ معاطب السفر عليهم فكانوا بغنى عن طلب الرزق بتجارة أو غارة، وكانوا يشهدون معه المحافل فكانوا فخرا له، قيل: كان له عشرة بنين وقيل ثلاثة عشر ابنا، والمذكور منهم سبعة، وهم: الوليد بن الوليد، وخالد، وعمارة، وهشام، والعاصي، وقيس أو أبو قيس، وعبد شمس (وبه يكنى).
ولم يذكر ابن حزم في (جمهرة الأنساب): العاصي.
واقتصر على ستة.
والتمهيدُ: مصدر مهّد بتشديد الهاء الدال على قوة المهْد.
والمهْد: تسوية الأرض وإزالة ما يُقِضُّ جنب المضطجع عليها، ومهْدُ الصبي تسمية بالمصدر.
والتمهيد هنا مستعار لتيسير أموره ونفاذ كلمته في قومه بحيث لا يعسر عليه مطلب ولا يستعصي عليه أمر.
وأُكد {مهّدْتُ} بمصدره على المفعولية المطلقة ليتوسل بتنكيره لإِفادة تعظيم ذلك التمهيد وليس يطرد أن يكون التأكيد لرفع احتمال المجاز.
ووصف في هذه الآية بما له من النعمة والسعة لأن الآية في سياق الامتنان عليه توطئة لتوبيخه وتهديده بسوء في الدنيا وبعذاب النار في الآخرة، فأما في آية سورة القلم فقد وصفه بما فيه من النقائص في قوله تعالى: {ولا تطع كل حلاّف مهين} [القلم: 10] إلخ بناء على قول من قال: إن المراد به الوليد بن المغيرة (وقد علمت أنه احتمال) لأن تلك الآية في مقام التحذير من شره وغدره.
و{ثم} في قوله: {ثم يطمع} للتراخي الرتبي، أي وأعظم من ذلك أنه يطمع في الزيادة من تلك النعم وذلك بما يعرف من يُسر أموره.
وهذا مشعر باستبعاد حصول المطموع فيه وقد صرح به في قوله: {كلا}.
والطمع: طلب الشيء العظيم وجعل متعلق طمعه زيادة مما جعل الله له لأنهم لم يكونوا يسندون الرزق إلى الأصنام، أو لأنّه طمع في زيادة النعمة غير متذكر أنها من عند الله فيكون إسناد الزيادة إلى ضمير الجلالة إدماجا بتذكيره بأن ما طمع فيه هو من عند الذي كفر هو بنعمته فأشرك به غيره في العبادة.
ولهذه النكتة عُدِل عن أن يقال: يطمع في الزيادة، أو يطمع أن يُزاد.
و{كلاّ} ردع وإبطال لطمعه في الزيادة من النّعم وقطع لرجائه.
والمقصود إبلاغ هذا إليه مع تطمين النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوليد سيقطع عنه مدد الرزق لئلا تكون نعمته فتنة لغيره من المعاندين فيغريهم حاله بأن عنادهم لا يضرهم لأنهم لا يحسبون حياة بعد هذه كما حكى الله من قول موسى عليه السلام: {ربّنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم} [يونس: 88].
وفي هذا الإِبطال والردع إيذان بأن كفران النعمة سبب لقطعها قال تعالى: {لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد} [إبراهيم: 7]، ولهذا قال الشيخ ابن عطاء الله: (من لم يشكر النعم فقد تعرّض لزوالها، ومن شكرها فقد قيّدها بعِقالها).
يجوز أن تكون هذه الجملة تعليلا للردع والإِبطال، أي لأن شدة معاندته لآياتنا كانت كفرانا للنعمة فكانت سببا لقطعها عنه إذ قد تجأوز حدّ الكفر إلى المنأواة والمعاندة فإن الكافر يكون منعما عليه على المختار وهو قول الماتريدي والمعتزلة خلافا للأشعري، واختار المحقّقون أنه خلاف لفظي.
ويجوز أن تكون مستأنفة ويكون الوقف عند قوله تعالى: {كلاّ}.
والعنيد: الشديد العناد وهو المخالفة للصواب وهو فعيل من: عند يعنِد كضرب، إذا نازع وجادل الحق البين.
وعناده: هو محأولته الطعن في القرآن وتحيله للتمويه بأنه سحر، أو شعر، أو كلام كهانة، مع تحققه بأنه ليس في شيء من ذلك كما أعلن به لقريش، قبل أن يلومه أبو جهل ثم أخذه بأحد تلك الثلاثة، وهو أن يقول: هو سحر، تشبثا بأن فيه خصائص السحر من التفريق بين المرء ومن هو شديد الصلة.
{سأُرْهِقُهُ صعُودا (17)}
جملة {سأُرهقه صعودا} معترضة بين {إنه كان لآياتنا عنيدا} [المدثر: 16] وبين {إنه فكر وقدّر}، قصد بهذا الاعتراض تعجيل الوعيد له مساءة له وتعجيلُ المسرة للنبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة {إنه فكّر وقدّر} مبيِّنة لجملة {إنه كان لآياتنا عنيدا} فهي تكملة وتبيين لها.
والإرهاق: الإِتعاب وتحميل ما لا يطاق، وفعله رهِق كفرِح، قال تعالى: {ولا ترهقني من أمري عسرا} في سورة الكهف (73).
والصّعود: العقبة الشديدة التّصعد الشاقة على الماشي وهي فعول مبالغة من صعِد، فإن العقبة صعْدة، فإذا كانت عقبة أشد تصعدا من العقبات المعتادة قيل لها: صعُود.
وكأنّ أصل هذا الوصف أن العقبة وُصفت بأنها صاعدة على طريقة المجاز العقلي ثم جعل ذلك الوصف اسم جنس لها.
وقوله: {سأرهقه صعودا} تمثيل لضد الحالة المجملة في قوله: {ومهّدت له تمهيدا} [المدثر: 14]، أي سينقلب حاله من حال راحة وتنعم إلى حالة سُوأى في الدنيا ثم إلى العذاب الأليم في الآخرة، وكل ذلك إرهاق له.
قيل: إنه طال به النزع فكانت تتصاعد نفسه ثم لا يموت وقد جعل له من عذاب النار ما أسفر عنه عذاب الدنيا.
وقد وُزع وعيده على ما تقتضيه أعماله فإنه لما ذُكر عناده وهو من مقاصِدهِ السيئة الناشئة عن محافظته على رئاسته وعن حسده النبي صلى الله عليه وسلم وذلك من الأغراض الدنيوية عقّب بوعيده بما يشمل عذاب الدنيا ابتداء.
ولما ذُكر طعنه في القرآن بقوله: {إنْ هذا إلاّ سحر يؤثر} وأنكر أنه وحي من الله بقوله: {إن هذا إلاّ قول البشر} أُردف بذكر عذاب الآخرة بقوله: {سأُصليه سقر} [المدثر: 26].
وعن النبي صلى الله عليه وسلم «أن صعودا جبل في جهنم يتصعد فيه سبعين خريفا ثم يهوي فيه كذلك أبدا»، رواه الترمذي وأحمد عن أبي سعيد الخدري.
وقال الترمذي: هو حديث غريب.
فجعل الله صفة صعود علما على ذلك الجبل في جهنم.
وهذا تفسير بأعظم ما دل عليه قوله تعالى: {سأرهقه صعودا}.
وجملة {إنه فكر وقدر} إلى آخرها بدل من جملة {إنه كان لآياتنا عنيدا} [المدثر: 16] بدل اشتمال.
وقد وصف حاله في تردده وتأمله بأبلغ وصف.
فابتدئ بذكر تفكيره في الرأي الذي سيصدر عنه وتقديره.
ومعنى {فكّر} أعمل فكره وكرّر نظر رأيه ليبتكر عذرا يموهه ويروّجه على الدهماء في وصف القرآن بوصف كلام الناس ليزيل منهم اعتقاد أنه وحي أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
و{قدّر} جعل قدْرا لما يخطر بخاطره أن يصف به القرآن ليعرضه على ما يناسب ما يُنحله القرآن من أنواع كلام البشر أو ما يسِم به النبي صلى الله عليه وسلم من الناس المخالفةِ أحوالهم للأحوال المعتادة في الناس مثال ذلك أن يقول في نفسه، نقول: محمد مجنون، ثم يقول: المجنون يُخنق ويتخالج ويوسوس وليس محمد كذلك،، ثم يقول في نفسه: هو شاعر، فيقول في نفسه: لقد عرفتُ الشّعر وسمعت كلام الشّعراء فما يشبه كلام محمّد كلام الشّاعر، ثم يقول في نفسه: كاهن، فيقول في نفسه: ما كلامه بزمزمة كاهن ولا بسجعه، ثم يقول في نفسه: نقول هو ساحر فإن السحر يفرق بين المرء وذويه ومحمد يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، فقال للناس: نقول إنه ساحر.
فهذا معنى {قدّر}.
وقوله: {فقُتل كيف قدّر} كلام معترض بين {فكّر وقدّر} وبين {ثم نظر} وهو إنشاء شتم مفرع على الإِخبار عنه بأنه فكر وقدّر لأن الذي ذكر يوجب الغضب عليه.
فالفاء لتفريع ذمه عن سيّئ فعله ومثله في الاعتراض قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك إلاّ رجالا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر} [النحل: 43، 44].
والتفريع لا ينافي الاعتراض لأن الاعتراض وضع الكلام بين كلامين متصلين مع قطع النظر عما تألف منه الكلام المعترض فإن ذلك يجري على ما يتطلبه معناه.
والداعي إلى الاعتراض هو التعجيل بفائدة الكلام للاهتمام بها.
ومن زعموا أن الاعتراض لا يكون بالفاء فقد توهموا.
و{قُتِل}: دعاء عليه بأن يقتله قاتل، أي دعاء عليه بتعجيل موته لأن حياته حياة سيئة.
وهذا الدعاء مستعمل في التعجيب من ماله والرثاءِ له كقوله: {قاتلهم الله} [التوبة: 30] وقولهم: عدِمْتُك، وثكلتْه أُمُّه، وقد يستعمل مثله في التعجيب من حسن الحال يقال: قاتله الله ما أشجعه.
وجعله الزمخشري كناية عن كونه بلغ مبلغا يحسده عليه المتكلم حتى يتمنى له الموت.
وأنا أحسب أن معنى الحسد غير ملحوظ وإنما ذلك مجرد اقتصار على ما في تلك الكلمة من التعجب أو التعجيب لأنها صارت في ذلك كالأمثال.
والمقام هنا متعين للكناية عن سوء حاله لأن ما قدره ليس مما يغتبط ذوو الألباب على إصابته إذ هو قد ناقض قوله ابتداء إذ قال: ما هو بعقْدِ السحرة ولا نفثهم وبعد أن فكّر قال: {إن هذا إلاّ سحر يؤثر} فناقض نفسه.
وقوله: {ثم قُتل كيف قدّر} تأكيد لنظيره المفرّع بالفاء.
والعطف بـ {ثم} يفيد أن جملتها أرقى رتبة من التي قبلها فِي الغرض المسوق له الكلام.
فإذا كان المعطوف بها عين المعطوف عليه أفادت أن معنى المعطوف عليه ذُو درجات متفاوتة مع أن التأكيد يكسب الكلام قوة.
وهذا كقوله: {كلاّ سيعلمون ثم كلا سيعلمون} [النبأ: 4، 5].
و{كيف قدّر} في الموضعين متحد المعنى وهو اسم استفهام دال على الحالة التي يبينها متعلِّق {كيف}.
والاستفهام موجه إلى سامع غير معيّن يستفهم المتكلم سامعه استفهاما عن حالة تقديره، وهو استفهام مستعمل في التعجيب المشوب بالإِنكار على وجه المجاز المرسل.
و{كيف} في محل نصب على الحال مقدمة على صاحبها لأن لها الصدر وعاملها {قدّر}.
وقوله: {ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر} عطف على {وقدّر} وهي ارتقاء متوالٍ فيما اقتضى التعجيب من حاله والإِنكار عليه.
فالتراخي تراخي رتبة لا تراخي زمنٍ لأن نظره وعُبُوسه وبسره وإِدباره واستكباره مقارنة لتفكيره وتقديره.
والنظر هنا: نظر العين ليكون زائدا على ما أفاده {فكّر وقدّر}.
والمعنى: نظر في وجوه الحاضرين يستخرج آراءهم في انتحال ما يصفون به القرآن.
و{عبس}: قطّب وجهه لمّا استعصى عليه ما يصف به القرآن ولم يجد مغمزا مقبولا.
و{بسر}: معناه كلح وجهُه وتغيّر لونه خوفا وكمدا حين لم يجد ما يشفي غليله من مطعن في القرآن لا ترده العقول، قال تعالى: {ووجوه يومئذٍ باسرة تظنّ أن يفعل بها فاقرة} في سورة [القيامة: 24، 25].
والإِدبار: هنا يجوز أن يكون مستعارا لتغيير التفكير الذي كان يفكره ويقدّره يأسا من أن يجد ما فكر في انتحاله فانصرف إلى الاستكبار والأنفة من أن يشهد للقرآن بما فيه من كمال اللفظ والمعنى.
ويجوز أن يكون مستعارا لزيادة إعراضه عن تصديق النبي صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: {ثم أدبر يسعى حكاية عن فرعون} في سورة النازعات (22).
وصفت أشكاله التي تشكّل بها لما أجهد نفسه لاستنباط ما يصف به القرآن، وذلك تهكم بالوليد.
وصيغة الحصر في قوله: {إِنْ هذا إلاّ سحر يؤثر} مشعرة بأن استقراء أحوال القرآن بعد السبر والتقسيم أنتج له أنه من قبيل السحر، فهو قصر تعيين لأحد الأقوال التي جالت في نفسه لأنه قال: ما هو بكلام شاعر ولا بكلام كاهن ولا بكلام مجنون، كما تقدم في خبره.
ووصف هذا السحر بأنه مأثُور، أي مروي عن الأقدمين، يقول هذا ليدفع به اعتراضا يرد عليه أن أقوال السحرة وأعمالهم ليست مماثلة للقرآن ولا لأحوال الرسول فزعم أنه أقوال سحرية غير مألوفة.
وجملة {إنْ هذا إلاّ قول البشر} بدل اشتمال من جملة {إن هذا إلاّ سحر يؤثر} بأن السحر يكون أقوالا وأفعالا فهذا من السحر القولي.
وهذه الجملة بمنزلة النتيجة لما تقدم، لأن مقصوده من ذلك كله أنّ القرآن ليس وحيا من الله.
وعطف قوله: {فقال} بالفاء لأنّ هذه المقالة لما خطرت بباله بعد اكتداد فكره لم يتمالك أن نطق بها فكان نطقه بها حقيقا بأن يعطف بحرف التعقيب.
{سأُصْلِيهِ سقر (26)}
جملة {سأُصليه سقر} مستأنفة استئنافا بيانيا ناشئا عن قوله: {إنه فكّر وقدّر} [المدثر: 18] إلى آخر الآيات فذكر وعيده بعذاب الآخرة.
ويجوز أن تكون بدلا من جملة {سأرهق صعورا}.
والإِصلاء: جعل الشيء صاليا، أي مباشرا حرّ النار.
وفعل صلِي يطلق على إحساس حرارة النار، فيكون لأجل التدفّؤ كقول الحارث بن حِلزة:
فتنورت نارها من بعيد ** بخزازى أيّان منك الصلاء

أي أنت بعيد من التدفؤ بها وكما قال حُميد بن ثوْر:
لا تصطلي النار إلاّ مِجْمرا أرِجا ** قد كسّرت من يلْنجوجٍ له وقصا

ويطلق على الاحتراق بالنار قال تعالى: {سيصلى نارا ذات لهب} في سورة أبي لهب (3) وقال: {فأنذرتكم نارا تلظّى لا يصلاها إلاّ الأشقى} في سورة الليل (14، 15)، وقال: {وسيصلون سعيرا} في سورة النساء (10)، والأكثر إذا ذكر لفعل هذه المادة مفعول ثان من أسماء النار أن يكون الفعل بمعنى الإِحراق كقوله تعالى: {فسوف نُصليه نارا} في سورة النساءِ (30).
ومنه قوله هنا {سأُصليه سقر}.
وسقر: علم لطبقة من جهنم، عن ابن عباس: أنه الطبق السّادس من جهنم.
قال ابن عطية: سقر هو الدرك السادس من جهنم على ما روي اهـ.
واقتصر عليه ابنُ عطية.
وجرى كلام جمهور المفسرين بما يقتضي أنهم يفسّرون {سقر} بما يرادف جهنم.
وسقر ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث لأنه اسم بُقعة من جهنم أو اسم جهنم وقد جرى ضمير سقر على التأنيث في قوله تعالى: {لا تُبقي} إلى قوله: {عليها تسعة عشر}.
وقيل سقر معرّب نقله في (الإِتقان) عن الجواليقي ولم يذكر الكلمة المعرّبة ولا من أية لغة هو.
و{ما أدراك ما سقر} جملة حالية من {سقر}، أي سقر التي حالها لا ينبئك به مُنبئ وهذا تهويل لحالها.
و{ما سقر} في محل مبتدإ وأصله سقر مّا، أي ما هي، فقدّم {ما} لأنه اسم استفهام وله الصدارة.
فإن {ما} الأولى استفهامية.
والمعنى: أيُّ شيء يدريك، أي يعلمك.
و{ما} الثانية استفهامية في محل رفع خبر عن {سقر}.
وجملة {لا تبقي} بدل اشتمال من التهويل الذي أفادته جملة {وما أدراك ما سقر} فإن من أهوالها أنها تهلك كل من يصلاها.
والجملة خبر ثان عن {سقر}.
وحذف مفعول {تبقي} لقصد العموم، أي لا تبقي منهم أحدا أو لا تبقي من أجزائهم شيئا.
وجملة {ولا تذر} عطف على {لا تبقي} فهي في معنى الحال، ومعنى {لا تذر} أي لا تترك من يلقى فيها، أي لا تتركه غير مصلي بعذابها.
وهذه كناية عن إعادة حياته بعد إهلاكه كما قال تعالى: {كلما نضِجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب} [النساء: 56].
و{لواحة}: خبر ثالث عن {سقر}.
و{لواحة} فعّالة، من اللوح وهو تغيير الذات من ألممٍ ونحوه، وقال الشاعر، وهو من شواهد (الكشاف) ولم أقف على قائله:
تقول ما لاحك يا مُسافِرْ ** يا ابنة عمي لاحني الهواجِرْ

والبشر: يكون جمع بشرة، وهي جلد الإِنسان، أي تغير ألوان الجلود فتجعلها سودا، ويكون اسم جمع للناس لا واحد له من لفظه.
وقوله: {عليها تسعة عشر} خبر رابع عن {سقر} من قوله: {وما أدراك ما سقر}.
ومعنى {عليها} على حراستها، ف (على) للاستعلاء المجازي بتشبيه التصرف والولاية بالاستعلاء كما يقال: فلان على الشرطة، أو على بيت المال، أي يلي ذلك والمعنى: أن خزنة سقر تسعة عشر ملكا.
وقال جمع: إن عدد تسعة عشر: هُم نقباء الملائكة الموكلين بجهنم.
وقيل: تسعة عشر صِنفا من الملائكة وقيل تسعة عشر صفّا.
وفي (تفسير الفخر): ذكر أرباب المعاني في تقدير هذا العدد وجوها:
أحدها قول أهل الحكمة: إن سبب فساد النفس هو القُوى الحيوانية والطبيعية أما الحيوانية فهي الخمس الظاهرة والخمس الباطنة، والشهوة والغضب، فمجموعها اثنتا عشرة.
وأما القوى الطبيعية فهي: الجاذبة، والماسكة، والهاضمة، والدافعة، والغاذية، والنامية، والمولِّدة، فهذه سبعة، فتلك تسع عشرة.
فلما كان منشأ الآفات هو هذه التسع عشرة كان عدد الزبانية كذلك اهـ.
والذي أراه أن الملائكة التسعة عشر موزّعون على دركات سقر أو جهنم لكل درك ملك فلعل هذه الدركات معيّن كل درك منها لأهل شعبة من شُعب الكفر، ومنها الدرك الأسفل الذي ذكره الله تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} في سورة النساء (145) فإن الكفر أصناف منها إنكار وجود الله، ومنها الوثنية، ومنها الشرك بتعدد الإله، ومنها عبادة الكواكب، ومنها عبادة الشيطان والجن، ومنها عبادة الحيوان، ومنها إنكار رسالة الرسل، ومنها المجوسية المانوية والمزدكية والزندقة، وعبادة البشر مثل الملوك، والإِباحيةُ ولو مع إثبات الإله الواحد.
وفي ذكر هذا العدد تحد لأهل الكتابين يبعثهم على تصديق القرآن إذ كان ذلك مما استأثر به علماؤهم كما سيأتي قوله: {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب} [المدثر: 31].
وقرأ الجمهور {تسعة عشر} بفتح العين من {عشر}.
وقرأ أبو جعفر {تسعة عشر} بسكون العين من {عشْر} تخفيفا لتوالي الحركات فيما هو كالاسم الواحد، ولا التفات إلى إنكار أبي حاتم هذه القراءة فإنها متواترة. اهـ.